الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة لخمس مضين من ربيع الأخر قتل أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام وهو يحاصر قلعة جعبر على ما ذكرناه قتله جماعة من مماليكه غيلة وهربوا إلى قلعة جعبر فصاح من بها من أهلها إلى العسكر يعلمونهم بقتله وأظهروا الفرح فدخل أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق. حدثني والدب عن بعض خواصه قال: دخلت إليه في الحال وهو حي فحين رآني ظن أني أريد قتله فأشار إلي بإصبعه السبابة يستعطفني فوقعت مني هيبته فقات يا مولاي من فعل بك هذا فلم يقدر على الكلام وفاضت نفسه لوقته رحمه الله. قال: وكان حسن الصورة أسمر اللون مليح العينين قد وخطه الشيب وكان قد زاد عمره وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته عظيم السياسة لا يقدر القوي على ظلم الضعيف وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابًا من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج فعمرها وامتلأت أهلًا وسكانًا. حكى لي والدي قال: رأيت الموصل وأكثرها خراب بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق والعرصة ودار السلطان ليس بين ذلك عمارة وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه لبعده عن العمارة وهو الأن في وسط العمارة وليس في هذه البقاع المذكورة كلها أراض براح وحدثني أيضًا أنه وصل إلى الجزيرة في الشتاء فدخل الأمير عز الدين الدبيسي هو من أكابر أمرائه ومن جملة أقطاعه مدينة دقوقا ونزل في دار إنسان يهودي فاستغاث اليهودي إلى اتابك وأنهى حاله إليه فنظر إلى الدبيسي فتأخر ودخل البلد وأخرج بركه وخيامه. قال: فلقد رأيت غلمانه ينصبون خيامه في الوحل وقد جعلوا على الأرض تبنًا يقيهم الطين وخرج فنزلها وكانت سياسته إلى هذا الحد. وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهة فصارت في أيامه وما بعدها من أكثر البلاد فواكه ورياحين وغير ذلك. وكان أيضًا شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد وكان يقول: إن لم نحفظ نساء الأجناد بالهيبة وإلا فسدن لثرة غيبة أزواجهن في الأسفار. وكان أشجع خلق الله أما قبل أن يملك فيكفيه أنه حضر مع الأمير مودود صاحب الموصل مدينة طبرية وهي للفرنج فوصلت طعنته باب البلد وأثر فيه وحما أيضًا على قلعة عقر الحميدية وهي على جبل عال فوصلت طعنته إلى سورها إلى أشياء أخر. وأما بعد الملك فقد كان الأعداء محدقين ببلاده وكلهم يقصدها ويريد أخذها وهو لا يقنع بحفظها حتى أنه لا ينقضي عليه عام إلا ويفتح من بلادهم. فقد كان الخليفة المسترشد بالله مجاوره في ناحية تكريت وقصد الموصل وحصرها ثم إلى جانبه من ناحية شهرزور ويلك الناحية السلطان مسعود ثم ابن سقمان صاحب خلاط ثم داود بن سقمان صاحب حصن كيفا ثم صاحب آمد وماردين ثم الفرنج من مجاورة ماردين إلى دمشق ثم أصحاب دمشق فهذه الولايات قد أحاطت بولايته من كل جهاتها فهو يقصد هذا مرة وهذا مرة ويأخذ من هذا ويصنع هذا إلى أن ملك من كل من يليه طرفًا من بلاده. وقد أتينا على أخباره في كتاب الباهر في تاريخ دولته ودولة أولاده فيطلب من هناك. لما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده وكان حاضرًا معه وسار إلى حلب فملكها. وكان حينئذ يتولى ديوان زنكي ويحكم في دولته من أصحاب العمائم جمال الدين محمد بن علي وهو المنفرد بالحكم ومعه أمير حاجب صلاح الدين محمد الياغيسياني فاتفقا على حفظ الدولة وكان مع الشهيد أتابك الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود فركب ذلك اليوم وأجمعت العساكر عليه وحضر عنده جمال الدين وصلاح الدين وحسنا له الأشتغال بالشرب والمغنيات والجواري وأدخلاه الرقة فبقي فيها أيامًا لا يظهر ثم سار إلى ماكسين فدخلها وأقام بها أيامًا وجمال الدين يحلف الأمراء لسيف الدين غازي بن أتابك زنكي ويسيرهم إلى الموصل. ثم سار من ماكسين إلى سنجار وكان سيف الدين قد وصل إلى الموصل فلما وصلوا إلى سنجار أرسل جمال الدين إلى الدزدار يقول له ليرسل إلى ولد السلطان يقول له: إني مملوكك ولكني تبع الموصل فمتى ملكتها سلمت إليك سنجار. فسار إلى الموصل فأخذه جمال الدين وقصد به مدينة بلد وقد بقي معه من العسكر القليل فأشار عليه بعبور دجلة فعبرها إلى الشرق في نفر يسير. وكان سيف الدين غازي بمدينة شهرزور وهي إقطاعه فأرسل إليه زين الدين بن علي كوجك نائب أبيه بالموصل أرسل إليه يعرفه قلة من مع الملك فأرسل إليه بعض عسكره فقبضوا عليه وحبس في قلعة الموصل واستقر ملك سيف الدين البلاد وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له وسار إليه صلاح الدين الياغسياني يدبر أمره ويقوم بحفظ دولته وقد استقصينا شرح هذه الحادثة في التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية
لما قتل أتابك كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته وهي تل باشر وما يجاورها فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان والامتناع على المسلمين وتسليم البلد فأجابوه إلى ذلك وواعدهم يومًا يصل إليهم فيه وسار في عساكره إلى الرها وملك البلد وامتنعت القلعة عليه بمن فيها من المسلمين فقاتلهم فبلغ الخبر إلى نور الدين محمود بن زنكي وهو بحلب فسار مجدًا إليه في عسكره فلما قاربها خرج جوسلين هاربًا عائدًا إلى بلده ودخل نور الدين المدينة ونهبها حينئذ وسبى لأهلها. وفي هذه الدفعة نهبت وخلت من أهلها ولم يبق بها منهم إلا القليل وكثير من الناس يظن أنها وبلغ الخبر إلى سيف الدين غازي بعصيان الرها فسير العساكر إليها فسمعوا بملك نور الدين البلد واستباحته وهم في الطريق فعادوا. ومن أعجب ما يروى أن زين الدين عليًا الذي كان نائب الشهيد وأولاده بقلعة الموصل جاءه هدية أرسلها إليه نور الدين من هذا الفتح وفي الجملة جارية فلما دخل إليها وخرج من عندها وقد اغتسل قال لمن عنده: تعلمون ما جرى لي في يومنا هذا قالوا لا! قال: لما فتحنا الرها مع الشهيد وقع في يدي من النهب جارية رائقة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد فنودي برد السبي والمال المنهوب وكان مهيبًا مخوفًا فرددتها وقلبي متعلق بها فلما كان الأن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار منهن تلك الجارية فوطئتها خوفًا أن يقع رد تلك الدفعة.
في هذه السنة سير عبد المؤمن جيشًا إلى جزيرة الأندلس فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام. وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما كان يحاصر مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل البلاد التي هم فيها لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة أصحابه الموحدين وإقامتهم لأمره فقبل عبد المؤمن ذلك منهم وشكرهم عليه وطيب قلوبهم وطلبوا منه النصرة على الفرنج فجهز جيشًا كثيفًا وسيره معهم وعمر أسطولًا وسيره في البحر فسار الأسطول إلى الأندلس وقصدوا مدينة إشبيلية وصعدوا في نهرها وبها جيش من الملثمين فحصروها برًا وبحرًا وملكوها عنوة وقتل فيها جماعة وأمن الناس فسكنوا واستولت العساكر على البلاد وكان لعبد المؤمن من بها
في هذه السنة قتل السلطان مسعود أمير حاجب عبد الرحمن طغايرك وهو صاحب خلخال وبعض أذربيجان والحاكم في دولة السلطان وليس للسلطان معه حكم. وكان سبب قتله لما ضيق عليه عبد الرحمن بقي معه شبه الأسير ليس له في البلاد حكم حتى إن عبد الرحمن قصد غلامًا كان للسلطان وهو بك أرسلان المعروف بخاص بك بن بلنكري وقد رباه السلطان وقربه فأبعده عنه وصار لا يراه وكان في خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة وتوصل لما يريد أن يفعله فجمع عبد الرحمن العساكر وخاص بك فيهم وقد استقر بينه وبين السلطان مسعود أن يقتل عبد الرحمن إلا رجلًا اسمه زنكي وكان جاندارًا فإنه بذل من نفسه أن يبدأه بالقتل ووافق خاص بك على القيام في الأمر جماعة من الأمراء فبينما عبد الرحمن في موكبه ضربه زنكي الجاندار بمقرعة حديد كانت في يده على رأسه فسقط إلى الأرض فأجهز عليه خاص بك وأعانه على حماية زنكي والقائمين معه من كان واطأه على ذلك من الأمراء وكان قتله بظاهر جنزة. وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد ومعه الأمير عباس صاحب الري وعسكره أكثر من عسكر السلطان فأنكر ذلك وامتعض منه فداراه السلطان ولطف به واستدعى الأمير البقش كونخر من اللحف وتتر الذي كان حاجبًا فلما قوي بهما أحضر عباسًا إليه في داره فلما دخل إليه منع أصحابه من الدخول معه وعدلوا به إلى حجرة وقالوا له: اخلع الرزية فقال: إن لي مع السلطان أيمانًا وعهودًا فلكموه وخرج له غلمان أعدوا لذلك فحينئذ تشاهد وخلع الرزية وألقاها وضربوه بالسيوف واحتزوا رأسه وألقوه إلى أصحابه ثم ألقوا جسده ونهب رحله وخيمه وانزعج البلد لذلك. وكان عباس من غلمان السلطان محمود حسن السيرة عادلًا في رعيته كثير الجهاد للباطنية قتل منهم خلقًا كثيرًا وبنى من رؤوسهم منارة بالري وحصر قلعة ألموت ودخل إلى قرية من قراهم فألقى فيها النار فأحرق كل من فيها من رجل وامرأة وصبي وغير ذلك فلما قتل دفن بالجانب الغربي ثم أرسلت ابته فحملته إلى الري فدفنته هناك وكان مقتله في ذي القعدة. ومن الاتفاق العجيب أن العبادي كان يعظ يومًا فحضره عباس فأسمع بعض من في المجلس ورمى بنفسه نحو الأمير عباس فضربه أصحابه ومنعوه خوفًا عليه لأنه كان شديد احتراس من الباطنية لا يزال لابسًا الزردية لا تفارقه الغلمان الأجلاد فقال له العبادي: يا أمير إلام هذا الاحتراز والله لئن قضي عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية فينفذ القضاء فيك. وكان كما قال وقد كان السلطان استوزر ابن دارست وزير بوزابة كارهًا على ما تقدم ذكره فعزله الآن لأنه اختار العزل والعود إلى صاحبه بوزابة فلما عزله قرر معه أن يصلح له بوزابة ويزيل ما عنده من الاستشعار بسبب قتل عبد الرحمن وعباس فسار الوزير وهو لا يعتقد النجاة فوصل إلى بوزابة وكان ما نذكره.
في هذه السنة حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت. وفيها توفي الأمير جاولي الطغرلي صاحب آرانية وبعض أذربيجان وكان قد تحرك للعصيان وتوفي شيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل بن أبي سعد الصوفي مات ببغداد ودفن بظاهر رباط الزوزني بباب البصرة ومولده سنة أربع وستين وأربعمائة وقام في منصبه ولده صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم. وفيها توفي نقيب النقباء محمد بن طراد الزينبي أخو شرف الدين الوزير. وفيها ولي مسعود بن بلال شحنكية بغداد وسار السلطان عنها. وفيها كان بالعراق جراد كثير أحل أكثر البلاد. وفيها ورد العبادي الواعظ رسولًا من السلطان سنجر إلى الخليفة ووعظ ببغداد وكان له قبول بها وحضر مجلسه السلطان مسعود فمن دونه وأما العامة فإنهم كانوا يتركون أشغالهم لحضور مجلسه والمسابقة إليه. وفيها بعد قتل الشهيد زنكي بن آقسنقر قصد صاحب دمشق حصن بعلبك وحصره وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي مستحفظًا لها فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل فصالحه وسلم القلعة إليه وأخذ منه إقطاعًا ومالًا وملكه عدة قرى من بلد دمشق وانتقل أيوب إلى دمشق فسكنها وأقام فيها. و في هذه السنة في ربيع الآخر توفي عبد الله بن علي بن أحمد أبو محمد المقري ابن بنت الشيخ أبي منصور ومولده في شعبان سنة أربع وستين وأربعمائة وكان مقرئًا نحويًا محدثًا وله تصانيف في القراءات.
لما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكره من فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها وسير عسكرًا آخر إلى همذان وعسكرًا ثالثًا إلى قلعة الماهكي من بلد اللحف فأما عسكره الذي بالماهكي فإنه سار إليهم الأمير البقش كون خر فدفعهم عن أعماله وكانت أقطاعة ثم إن بوزابة سار عن أصفهان يطلب السلطان مسعودًا فراسله السلطان في الصلح فلم يجب إليه وسار مجدًا فالتقيا بمرج قراتكين وتصافا فاقتتل العسكران فانهزمت ميمنة السلطان مسعود وميسرته واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه صبر فيه الفريقان ودامت الحرب بينهما فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه وقيل بل عثر به الفرس فأخذ أسيرًا وحمل إلى السلطان وقتل بين يديه وانهزم أصحابه لما أخذ هو أسيرًا. وبلغت هزيمة العسكر السلطاني من الميمنة والميسرة إلى همذان وقتل بين الفريقين خلق كثير
كان صاحب مدينة قابس قبل هذه السنة إنسانًا اسمه رشيد توفي وخلف أولادًا فعمد مولى له اسمه يوسف إلى ولده الصغير واسمه محمد فولاه الأمر وأخرج ولده الكبير واسمه معمر واستولى يوسف على البلد وحكم على محمد لصغر سنه. وجرى منه أشياء من التعرض إلى حرم سيده والعهدة على ناقله وكان من جملتهم امرأة من بني قرة فأرسلت إلى أخوتها تشكو إليهم ما هي فيه فجاء أخوتها لأخذهم فمنعهم وقال: هذه حرمة مولاي ولم يسلمها فسار بنو قرة ومعمر بن رشيد إلى الحسن صاحب إفريقية وشكوا إليه ما يفعل يوسف فكاتبه الحسن في ذلك فلم يجب إليه وقال: ائن لم يكف الحسن عني وإلا سلمت قابس إلى صاحب صقيلية فجهز الحسن العسكر إليه فلما سمع يوسف بذلك أرسل إلى رجار الفرنجي صاحب صقيلية وبذل له الطاعة وقال له: أريد منك خلعة وعهدًا بولاية قابس لأكون نائبًا عنك كما فعلت مع بني مطروح في طرابلس فسير إليه رجار الخلعة فجد حينئذ الحسن في تجهيز العسكر إلى قابس فساروا إليها ونازلوها وحصروها فثار أهل البلد بيوسف لما اعتمده من طاعة الفرنج وسلموا البلد إلى عسكر الحسن وتحصن يوسف في القصر فقاتلوه حتى فتحوه وأخذ يوسف أسيرًا فتولى عذابه معمر بن رشيد وبنو قرة فقطعوا ذكره وجعلوه في فمه وعذب بأنواع العذاب. وولي معمر قابس مكان أخيه محمد وأخذ بنو قرة أختهم وهرب عيسى أخو يوسف وولد يوسف وقصدوا رجار صاحب صقيلية فاستجاروا به وشكوا إليه ما لقوا من الحسن فغضب لذلك وكان ما نذكره سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من فتح المهدية إن شاء الله تعالى.
كان يوسف هذا صاحب قابس قد أرسل رسولًا إلى رجار بصقيلية فاجتمع هو ورسول الحسن صاحب المهدية عنده فجرى بين الرسولين مناظرة فذكر رسول يوسف الحسن وما نال منه وذمه ثم إنهما عادا في وقت واحد وركبا البحر كل واحد منهما في مركبه فأرسل رسول الحسن رقعة إلى صاحبه على جناح طائر يخبره بما كان من رسول يوسف فسير الحسن جماعة من أصحابه في البحر فأخذوا رسول يوسف وأحضروه عند الحسن فسبه وقال: ملكت الفرنج بلاد المسلمين وطولت لسانك بذمي! ثم أركبه جملًا وعلى رأسه طرطور بجلاجل وطيف به في البلد ونودي عليه: هذا جزاء من سعى أن يملك بلاد المسلمين فلما توسط المهدية ثار به العامة فقتلوه بالحجارة
في هذه السنة في جمادى الأولى حصر الفرنج مدينة المرية من الأندلس وضيقوا عليها برًا وبحرًا فملكوها عنوة وأكثروا القتل بها والنهب وملكوا أيضًا مدينة بياسة وولاية جيان وكلها بالأندلس ثم استعادها المسلمون بعد ذلك منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
في هذه السنة دخل محمود بن زنكي صاحب حلب بلد الفرنج ففتح منه مدينة ارتاح باسيف ونهبها وحصن مابولة وبصرفون وكفر لاثا. وكان الفرنج بعد قتل والده زنكي قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره
في هذه السنة كثر فساد علي بن دبيس بالحاة وما جاورها وكثرت الشكاوى منه فأقطع السلطان مسعود الحلة للأمير سلار كرد فسار إليها من همذان ومعه عسكر وانضاف إليهم جماعة من عسكر بغداد وقصدوا الحلة واحتاط على أهل علي ورجعت العساكر وأقام هو بالحلة في مماليكه وأصحابه وسار عليبن دبيس فلحق بالبقش كون خر وكان بإقطاعه في اللحف متجنيًا على السلطان فاستنجده فسار معه إلى واسط واتفق هو والطرنطاي وقصدوا الحلة فاستنقذوها من سلار كرد في ذي الحجة وفارقها سلار كرد وعاد إلى بغداد.
في هذه السنة في جمادى الأولى خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله بولاية العهد. وفيها ولي عون الدين يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام ببغداد وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر المخزن. وفيها في ربيع الأول مات أبو القاسم طاهر بن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الخير الميهني شيخ رباط البسطامي ببغداد وفي ربيع الآخر توفيت فاطمة خاتون بنت السلطان محمد زوجة المقتفي لأمر الله. وفي رجب منها مات أبو الحسن محمد بن المظفر علي بن المسلمة ابن رئيس الرؤساء ومولده سنة أربع وثمانين وكان قد تصوف وجعل داره التي في القصر رباطًا للصوفية. وفيها سار سيف الدين غازي بن زنكي إلى قلعة دارا فملكها وغيرها من بلد ماردين ثم سار إلى ماردين وحصرها وخرب بلدها ونهبه. وكان سبب ذلك أن أتابك زنكي لما قتل تطاول صاحب ماردين وصاحب الحصن إلى ما كان قد فتحه من بلادهما فأخذاه فلما ملك سيف الدين وتمكن سار إلى ماردين وحصرها وفعل ببلدها الأفاعيل العظيمة فلما رأى صاحبها وهو حينئذ حسام الدين تمرتاش ما يفعل في بلده قال: كنا نشكو من أتابك الشهيد وأين أيامه لقد كانت أعيادًا. قد حصرنا غير مرة فلم يأخذ هو ولا أحد من عسكره مخلاة تبن بغير ثمن ولا تعد هو وعسكره حاصل السلطان وأرى هذا ينهب البلاد ويخربها. ثم راسله وصالحه وزوجه ابنته ورحل سيف الدين عنه وعاد إلى الموصل وجهزت ابنة حسام الدين وسيرت إليه فوصلت وهو مريض قد أشفى على الموت فلم يدخل بها وبقيت عنده إلى أن توفي وملك قطب الدين مودود فتزوجها على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها أشتد الغلاء بإفريقية ودامت أيامه فإن أوله كان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وعظم الأمر على أهل البلاد حتى أكل بعضهم بعضًا وقصد أهل البوادي المدن من الجوع فأغلقها أهلها دونهم وتبعه وباء وموت كثير حتى خلت البلاد وكان أهل البيت لا يبقى منهم أحد وسار كثير منهم إلى صقيلية في طلب القوت ولقوا أمرًا عظيمًا.
قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف صاحب قابس إلى رجار ملك صقلية واستغاثتهم به فغضب لذلك وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية صلح وعهود إلى مدة سنتين وعلم أنه فاته فتح لبلاد في هذه الشدة التي أصابتهم وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين فأن الناس فارقوا البلاد والقرى ودخل أكثرهم إلى مدينة صقيلية وأكل الناس بعضهم بعضًا وكثر الموت في الناس فاغتنم رجار هذه الشدة فعمر الأسطول وأكثر منه فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيًا مملوءة رجالًا وسلاحًا وقوتًا. وسار الأسطول عن صقلية إلى جزيرة قوصرة وهي بين المهدية وصقلية فصادفوا بها مركبًا وصل من المهدية فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدم الأسطول فسألهم عن حال إفريقية ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها فحلفوا أنهم لم يرسلوا منها شيئًا فأمر الرجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه: إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية فسألناهم عن الأسطول المخذول فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية. وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير الحسن والناس وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة ثم سار وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها فلو تم له ذلك لم يسام منهم أحد فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحًا هائلة عكستهم فلم يقدروا على المسير إلا بالمقاذيف فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم فرآهم الناس فلما وصلوا رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته أرسل إلى الأمير الحسن يقول: إنما جئت بهذا الأسطول طالبًا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها وأما أنت فبيننا وبينك عهود فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم فقالوا: نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين. فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برًا وبحرًا ويحول بيننا وبين الميرة وليس عندنا ما يقوتنا شهرًا فنؤخذ قهرًا. وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيرًا من الملك وقد طلب مني عسكرًا إلى قابس فإذا فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين وإذا امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح وليس يريد إلا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر وليس لنا بقتاله طاقة والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا. وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلدبغير مانع ولا دافع ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه ورأى الخزائنمملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيىء غريب يقل وجود مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن في قصره. وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائتا سنة وثماني سنوات من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة فأخذ لنفسه وأهله منه أمانًا فلم يخرج معهم ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ونودي بالأمان فخرج من كان مستخفيًا وأصبح جرجي من الغد لفأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخافوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع ولهم بالمهدية خبايا وودائع فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم تمض جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد. وأما الحسن فإنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدًا ذكرًا غير الإناث وخواص خدمه قاصدًا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب فطلب منه مالًا انكسر له في ديوانه فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحي رهينة وسار فوصل في اليوم الثاني إلى محرز وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلًا وتوجع لما حل به فأقام عنده شهورًا والحسن كاره للإقامة فأراد المسير فأراد المسير إلى ديار مصر إلى الخليفة الحافظ العلوي واشترى مركبًا لسفره فسمع جرجي الفرنجي فجهز شواني ليأخذه فعاد الحسن عن ذلك وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب فأرسل كبار أولاده يحيى وتميمًا وعليًا إلى يحيا بن عبد العزيز وهو من بني حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغناي هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك. ولما استقر جرجي بالمهدية سير اسطولًا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير أسطولًا آخر إلى مدينة سوسة فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه فدخلها الفرنج بلا قتال ثاني عشر صفر وأما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة وأسر من بقي من الرجال وسبي الحريم وذلك في الثالث والعشرين من صفر ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها وافتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة. ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان والله أعلم.
|